فصل: تقييد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تَقَوُّم

التّعريف

1 - التّقوّم‏:‏ مصدر تقوّم الشّيء تقوّما‏.‏ مطاوع قوّم يقال‏:‏ قوّمته فتقوّم أي‏:‏ عدّلته فتعدّل، وثمّنته فتثمّن‏.‏

وهو عند الفقهاء‏:‏ كون الشّيء مالا مباح الانتفاع به شرعا في غير ضرورة‏.‏ فكلّ متقوّم مال، وليس كلّ مال متقوّما، فما يباح بلا تموّل لا يكون مالا كحبّة قمح‏.‏ وما يتموّل بلا إباحة انتفاع لا يكون متقوّما كالخمر‏.‏ وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما، كالدّم، وإذا وجدا كان الشّيء مالا متقوّما‏.‏ وقد يستعمل التّقوّم فيما يحصره عدّ أو ذرع، كحيوان وثياب، فالتّقوّم بهذا الاعتبار يقابل المثليّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّموّل‏:‏

2 - يراد بالتّموّل عند الفقهاء اتّخاذ المال قنية‏.‏ فالتّقوّم أخصّ من التّموّل، لأنّ التّقوّم يستلزم إباحة الانتفاع بالشّيء شرعاً، فضلا عن كونه متموّلاً‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يشترط في المعقود عليه في عقد البيع ونحوه - بجانب توافر سائر الشّروط - أن يكون متقوّما، أي يباح الانتفاع به، فلا يصحّ بيع المال غير المتقوّم‏.‏

وهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء‏.‏ إلا أنّ الحنفيّة يقولون بالتّفرقة بين بيع غير المتقوّم والشّراء بغير المتقوّم، فبيع المال غير المتقوّم باطل عندهم لا يترتّب عليه حكم كبيع الدّم بالخنزير، فلا يملك المشتري المبيع ولا البائع الثّمن، سواء أكان البيع حالاً أم مؤجّلا‏.‏

أمّا الشّراء بثمن غير متقوّم، فيعتبرونه فاسدا وتجري عليه أحكام البيع الفاسد‏.‏

وسبب التّفرقة بين الحالتين أنّ المبيع هو المقصود الأصليّ من البيع، لأنّ الانتفاع إنّما يكون بالأعيان، والأثمان وسيلة للمبادلة‏.‏ وللتّوسّع في ذلك ‏(‏ر‏:‏ بطلان، فساد، بيع، بيع منهيّ عنه‏)‏‏.‏

تقوّم المتلفات

4 - من شروط وجوب ضمان المتلفات أن يكون الشّيء المتلف متقوّما، فلا يجب الضّمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم، سواء أكان المتلف مسلما أم ذمّيّا، لسقوط تقوّم الخمر والخنزير في حقّ المسلم‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إتلاف ف 34 - 1 /522‏)‏‏.‏

أمّا لو أتلف مسلم أو ذمّيّ على ذمّيّ خمراً أو خنزيراً فيرى الحنفيّة والمالكيّة وجوب الضّمان، واستدلّوا بأنّنا أمرنا أن نترك أهل الذّمّة وما يدينون، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه سأل عُمَّالَه‏:‏ ماذا تصنعون بما يمرّ به أهل الذّمّة من الخمور‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعشّرها، فقال‏:‏ لا تفعلوا، ولّوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها‏.‏ فلولا أنّها متقوّمة وبيعها جائز لهم لما أمرهم بذلك، فإذا كانت مالاً لهم وجب ضمانها كسائر أموالهم‏.‏

ويقول الشّافعيّة والحنابلة بعدم وجوب ضمان الخمر والخنزير مطلقا، سواء أكانا لمسلم أم ذمّيّ، لما روى جابر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا إنّ اللّه ورسوله حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» وما حرم بيعه لحرمته لم تجب قيمته كالميتة، ولأنّ الخمر والخنزير غير متقوّمين فلا يجب ضمانهما، ودليل أنّهما غير متقوّمين في حقّ المسلم - فكذلك في حقّ الذّمّيّ - «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فإذا قبلوا عقد الذّمّة فأعلمهم أنّ لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» وهذا يقتضي أنّ كلّ ما ثبت في حقّ المسلمين يثبت في حقّ الذّمّيّين لا أنّ حقّهم يزيد على حقّ المسلمين، ولأنّ عقد الذّمّة خلف عن الإسلام، فيثبت به ما يثبت بالإسلام، إذا الخلف لا يخالف الأصل، فيسقط تقوّمهما في حقّهم‏.‏ وينظر التّفصيل في ‏(‏إتلاف، وضمان‏)‏‏.‏

تقوّم المنافع

5 - يرى الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في قول‏:‏ أنّ المنافع أموال متقوّمة مضمونة بالعقود والغصوب كالأعيان‏.‏ والدّليل على أنّ المنفعة متقوّمة بنفسها أنّ التّقوّم عبارة عن العزّة، والمنافع عزيزة بنفسها عند النّاس، ولهذا يبذلون الأعيان لأجلها، بل تقوّم الأعيان باعتبارها فيستحيل أن لا تكون هي متقوّمة‏.‏

وذهب الحنفيّة - وهو قول للمالكيّة - إلى أنّ المنافع لا تتقوّم بنفسها بل تقوّم ضرورة عند ورود العقد، لأنّ التّقوّم لا يسبق الوجود والإحراز، وذلك فيما لا يبقى غير متصوّر‏.‏ وتتفرّع على هذا الخلاف فروع كثيرة، تنظر في أبواب الغصب من الكتب الفقهيّة، وفي مصطلحي‏:‏ ‏(‏ضمان، وغصب، وإجارة‏)‏‏.‏

تقويم

التّعريف

1 - التّقويم‏:‏ مصدر قوّم، ومن معانيه التّقدير، يقال قوّم المتاع إذا قدّره بنقد وجعل له قيمة‏.‏ والتّقويم في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الأصل في التّقويم أنّه جائز، وقد يكون واجباً، كتقويم مال التّجارة لإخراج زكاته، وكتقويم صيد البرّ إذا قتله المحرم‏.‏

تقويم عروض التّجارة

3 - اتّفق الفقهاء على وجوب تقويم عروض التّجارة لإخراج زكاتها، مع مراعاة توفّر شروطها من بلوغ النّصاب وحولان الحول‏.‏

واختلفوا فيما تقوّم به عروض التّجارة، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ تقويم مال التّجارة يكون بالأنفع للفقراء‏.‏ بأن تقوّم عروض التّجارة بما يبلغ نصابا من ذهب أو فضّة‏.‏ وسواء أقوّمت بنقد البلد الغالب - مع كونه الأولى عند الحنابلة لأنّه الأنفع للفقير - أم بغيره‏.‏ وسواء أبلغت قيمة العروض بكلّ من الذّهب والفضّة نصابا، أم بلغت نصاباً بأحدهما دون الآخر‏.‏ فيلتزم في كلّ الحالات تقويم السّلعة بالأحظّ للفقراء‏.‏

وذهب المالكيّة إلى تقويم عروض التّجارة بالفضّة، سواء ما يباع بالذّهب أو ما يباع غالباً بالفضّة، فيقوّمهما بالفضّة‏.‏ لأنّها قيم الاستهلاك ولأنّها الأصل في الزّكاة‏.‏

فإن كانت العروض تباع بهما، واستويا بالنّسبة إلى الزّكاة، يخيّر التّاجر بين تقويمهما بالذّهب أو بالفضّة‏.‏ وعلى القول بأنّ الذّهب والفضّة أصلان، فيعتبر الأفضل للمساكين، لأنّ التّقويم لحقّهم‏.‏ واشترط المالكيّة لتقويم عروض التّجارة أن ينضّ للتّاجر شيء ولو درهم‏.‏ ولا يشترط أن ينضّ له نصاب‏.‏ فإن لم ينضّ له شيء في سنته فلا تقويم ولا زكاة‏.‏ وليس على التّاجر أن يقوّم عروض تجارته بالقيمة الّتي يجدها المضطرّ في بيع سلعه، وإنّما يقوّم سلعته بالقيمة الّتي يجدها الإنسان إذا باع سلعته على غير الاضطرار الكثير‏.‏ وعند الشّافعيّة يختلف تقويم مال التّجارة بحسب اختلاف أحوال رأس المال‏.‏

فلرأس المال خمسة أحوال‏:‏

الحال الأوّل‏:‏ أن يكون نقدا نصابا‏.‏ فيقوّم آخر الحول بما اشتراه به من ذهب أو فضّة، ويزكّيه إذا بلغ نصابا عند حولان الحول، وهذا هو المذهب المشهور‏.‏

وصورته‏:‏ أن يشتري عرضا بمائتي درهم، أو بعشرين دينارا، فيقوّم آخر الحول به أي بالدّراهم أو بالدّنانير‏.‏ فإن اشترى بالدّراهم وباع بالدّنانير، وقصد التّجارة مستمرّ، وتمّ الحول، فلا زكاة إن لم تبلغ الدّنانير قيمة الدّراهم‏.‏

وهناك قول في المذهب أنّ التّقويم يكون أبدا بغالب نقد البلد‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ أن يكون رأس المال نقدا دون النّصاب، وفيه وجهان‏:‏

أصحّهما‏:‏ أنّه يقوّم بذلك النّقد‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه يقوّم بغالب نقد البلد‏.‏

ومحلّ الوجهين إن لم يملك ما يتمّ به النّصاب‏.‏ فإن ملك قوّم به‏.‏

وصورته‏:‏ أن يشتري بمائة درهم وهو يملك مائة أخرى، فلا خلاف أنّ التّقويم بالدّراهم‏.‏ لأنّه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول، وابتدأ الحول من حين ملك الدّراهم‏.‏

الحال الثّالث‏:‏ أن يملك بالنّقدين جميعاً‏.‏ وهو على ثلاثة أضرب‏.‏

الأوّل‏:‏ أن يكون كلّ واحد نصاباً فيقوّم بهما على نسبة التّقسيط يوم الملك‏.‏

وطريقة تقويم أحد النّقدين بالآخر‏.‏

وصورته‏:‏ اشترى بمائتي درهم وعشرين دينارا فينظر إن كانت قيمة المائتين عشرين دينارا، فنصف العرض مشترى بدراهم والآخر بدنانير‏.‏

الضّرب الثّاني‏:‏ أن يكون كلّ واحد منهما دون النّصاب‏.‏

فعلى احتمالين‏:‏ إمّا أن يجعل ما دون النّصاب كالعروض، فيقوّم الجميع بنقد البلد‏.‏

أو أن يجعل كالنّصاب فيقوّم ما ملكه بالدّراهم بدراهم، وما ملكه بالدّنانير بدنانير‏.‏

الضّرب الثّالث‏:‏ أن يكون أحدهما نصابا والآخر دونه‏.‏ فيقوّم ما ملكه بالنّقد الّذي هو نصاب بذلك النّقد من حين ملك ذلك النّقد‏.‏

وما ملكه بالنّقد الآخر على الوجهين المتقدّمين في الحال الثّاني‏.‏

الحال الرّابع‏:‏ أن يكون رأس المال غير النّقد، بأن يملك بعرض قنية، أو ملك بخلع فيقوّم في آخر الحول بغالب نقد البلد من الدّراهم أو الدّنانير، فإن بلغ به نصاباً زكّاه، وإلا فلا، وإن كان يبلغ بغيره نصاباً‏.‏ فلو جرى في البلد نقدان متساويان، فإن بلغ بأحدهما نصابا دون الآخر قوّم به‏.‏ وإن بلغ بهما فعلى أوجه‏:‏

أصحّها‏:‏ يتخيّر المالك فيقوّم بما شاء منهما‏.‏

والثّاني‏:‏ يراعى الأحظّ للفقراء‏.‏

والثّالث‏:‏ يتعيّن التّقويم بالدّراهم لأنّها أرفق‏.‏

والرّابع‏:‏ يقوّم بالنّقد الغالب في أقرب البلاد إليه‏.‏

الحال الخامس‏:‏ أن يملك بالنّقد وغيره‏.‏ بأن اشترى بمائتي درهم وعرض قنية، فما قابل الدّراهم يقوّم بها، وما قابل العرض يقوّم بنقد البلد‏.‏

تقويم جزاء الصّيد

4 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى وجوب المثل من النّعم على من قتل صيد الحرم‏.‏ فيجب عليه أن يذبح مثله من الإبل أو البقر أو الغنم إن كان الصّيد الّذي قتله ممّا له مثل منها‏.‏ ودليلهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاءٌ مثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِه ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏ ولما ورد عن الصّحابة رضي الله عنهم - في تقويم صيد الحرم بما له مثل بما يماثله‏.‏ ومحلّ تفصيل معرفة المثل في مصطلح ‏(‏صيد، وحرم، وإحرام‏)‏‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب المثل من النّعم، بل يقوّم الصّيد بالمال‏.‏ لأنّ المثل المطلق، بمعنى المثل في الصّورة والمعنى، وهو المشارك في النّوع غير مراد في الآية إجماعاً‏.‏ فبقي المثل معنى فقط وهو القيمة‏.‏ وسواء أوجب على قاتل الصّيد المثل من النّعم - على قول الجمهور - أم القيمة على قول الحنفيّة، فيرجع لمعرفة المماثلة إلى تقويم عدلين من أهل المعرفة والخبرة، ومن المستحبّ أن يكونا فقيهين‏.‏

وذهب المالكيّة - وهو وجه عند الشّافعيّة - إلى عدم جواز كون أحد المقوّمين هو القاتل‏.‏ قياسا على عدم جواز كون المتلف للمال هو أحد المقوّمين في الضّمان‏.‏

وذهب الشّافعيّة - في الصّحيح عندهم - إلى جوازه، وذلك لأنّه وجب عليه لحقّ اللّه تعالى، فجاز أن يجعل من يجب عليه الحقّ أمينا فيه، كربّ المال في الزّكاة‏.‏ وهذا مقيّد بما إذا قتله خطأ أو مضطرّاً، أمّا إذا قتله عدواناً فلا يجوز أن يكون أحد المقوّمين، لأنّه يفسق بتعمّد القتل، فلا يؤتمن في التّقويم‏.‏ ويخيّر قاتل الصّيد بين ثلاثة أمور‏:‏

إمّا أن يهدي مثل ما قتله من النّعم لفقراء الحرم - إن كان الصّيد له مثل - أو أن يقوّمه بالمال ويقوّم المال طعاما ويتصدّق بالطّعام على الفقراء‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

أمّا المالكيّة فذهبوا إلى أنّ الصّيد يقوّم ابتداء بالطّعام، ولو قوّمه بالمال ثمّ اشترى به طعاما أجزأ‏.‏

والأمر الثّالث‏:‏ أن يصوم عن كلّ مدّ من الطّعام يوما، ودليله ما تقدّم من قوله تعالى‏:‏

‏{‏هَدْيَاً بَالِغَ الكَعْبَةِ أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامَاً‏}‏‏.‏

ويقوّم الصّيد في اليوم وفي المكان الّذي أصيب فيه، أو في أقرب المواضع منه‏.‏

وتمام ذلك في ‏(‏حجّ، وإحرام، وصيد‏)‏‏.‏

تقويم السّلعة المعيّنة في خيار العيب

5 - إذا اختار المشتري إبقاء السّلعة الّتي اشتراها مع وجود عيب فيها‏.‏ أو في حال ما إذا تعذّر ردّ السّلعة المعيبة بسبب هلاكها أو تلفها أو استهلاكها، وأراد المشتري الرّجوع على البائع، أو في حال ما إذا حدث في السّلعة عيب عند المشتري، مع وجود عيب قديم عند البائع، فاختار المشتري الرّدّ أو الإبقاء‏.‏

ففي هذه الحالات تقوّم السّلعة معيبة وتقوّم سليمة، ويرجع المشتري على البائع بمقدار ما نقص العيب من ثمن السّلعة، فإذا كانت قيمة السّلعة سليمة مائة ومع العيب تسعين، فنسبة النّقص عشر قيمة المبيع، فيرجع المشتري على البائع بعشر الثّمن‏.‏

وهل يجبر البائع على ما اختاره المشتري من الرّدّ أو عدمه مع أخذ أرش العيب‏؟‏ فيه خلاف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح‏:‏ ‏(‏خيار العيب‏)‏‏.‏

ولو حدث في السّلعة عيب حادث عند المشتري، غير العيب القديم الّذي كان عند البائع، فتقوّم السّلعة ثلاث مرّات‏.‏ فتقوّم السّلع سليمة بعشرة مثلا، ثمّ تقوّم ثانيا بالعيب القديم بقطع النّظر عن العيب الحادث بثمانية مثلا، فيقدّر النّقص بالنّسبة لثمنها سليمة بالخمس‏.‏ ثمّ تقوّم ثالثاً بالعيب الحادث بقطع النّظر عن القديم بثمانية مثلا، فيكون النّقص الخمس من ثمنها سليمة‏.‏

ويعتبر التّقويم يوم دخل المبيع في ضمان المشتري عند المالكيّة والحنابلة‏.‏

وعند الشّافعيّة الأصحّ اعتبار أقلّ قيمة المبيع المتقوّم من يوم البيع إلى وقت القبض‏.‏

لأنّ قيمة السّلعة إن كانت وقت البيع أقلّ فالزّيادة في المبيع حدثت في ملك المشتري، وفي الثّمن حدثت في ملك البائع فلا تدخل في التّقويم‏.‏

أو كانت القيمة وقت القبض، أو بين الوقتين أقلّ فالنّقص في المبيع من ضمان البائع، وفي الثّمن من ضمان المشتري فلا يدخل في التّقويم‏.‏ وعند الحنفيّة‏:‏ يكون تقويم الأصل وقت البيع وتقويم الزّيادة وقت القبض لأنّ الزّيادة إنّما تأخذ قسطاً من الثّمن بالقبض‏.‏

التّقويم في الرّبويّات

6 - لا يجوز بيع الرّبويّات بجنسها إلّا بعد تيقّن المماثلة كيلاً أو وزناً، ولا يجوز التّفاضل بينها‏.‏ ولهذا لا يعتبر التّقويم في الرّبويّات، لأنّ التّقويم ظنّيّ وقائم على التّخمين والتّقدير‏.‏ والقاعدة عند الفقهاء في الرّبا أنّ الجهل بالتّماثل كالعلم بالتّفاضل‏.‏

فما لم تتيقّن المماثلة لا يجوز البيع لاحتمال التّفاضل‏.‏ ومن أمثلته عند الفقهاء عدم جواز بيع الطّعام بجنسه جزافا، كقولك بعتك هذه الصّبرة من الطّعام بهذه الصّبرة مكايلة، مع الجهل بكيل الصّبرتين أو كيل أحدهما‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏ربا‏)‏‏.‏

تقويم الجوائح

7 - الجائحة‏:‏ من الجوح، وهو الهلاك، واصطلاحاً‏:‏ ما أتلف من معجوز عن دفعه عادة قدرا من ثمر أو نبات بعد بيعه‏.‏

كأن يهلك الثّمر بسبب برد أو ثلج أو غبار أو ريح حارّ أو جراد أو فئران أو نار أو عطش‏.‏

فإذا أصابت الجائحة الثّمر، وضع عن المشتري من الثّمن بقدر ما أتلفته بعد تقويمها‏.‏ فيعتبر ما أصيب من الجائحة، وينسب إلى قيمة ما بقي سليما في زمن الجائحة‏.‏

فيقال مثلا كم يساوي الثّمر قبل الجائحة، فيقال عشرون، والقدر المجاح زمن الجائحة - على أن يقبض في وقته - قيمته عشرة، وقيمة السّليم يوم الجائحة - على أن يقبض في وقته - عشرة، فيوضع عن المشتري نصف قيمة الثّمر الّذي اشتراه، وهو عشرة‏.‏

ومحلّ تقويم الجائحة إذا كانت الثّمرة في ضمان البائع، بأن تمّ العقد ولم يتمّ القبض ولا التّخلية، وعليه يحمل قول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ في حديث جابر «رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح»‏.‏

أمّا إذا أصابت الجائحة الثّمر بعد التّخلية بعد تأخّر المشتري في الجذّ إلى الوقت الّذي اشترى الثّمرة له، فضمانها على المشتري، وعليه يحمل قول الرّسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الّذي يرويه أبو سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - ‏:‏ «أصيب رجل في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تصدّقوا عليه، فتصدّق النّاس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لغرمائه‏:‏ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك»‏.‏

والضّمير في ‏(‏تصدّقوا‏)‏ للصّحابة غير البائعين‏.‏ ومحلّ البحث في أحكام ضمان الجوائح في مصطلح‏:‏ ‏(‏ضمان، وجائحة، وثمر‏)‏‏.‏ ولا يستعجل بالتّقويم يوم الجائحة، بل ينتظر إلى انتهاء البطون - فيما يزرع بطونا ليتحقّق المقدار المصاب الّذي يراد تقويمه‏.‏

التّقويم في القسمة

8 - قد تحتاج القسمة في بعض أنواعها إلى تقويم المقسم‏.‏ ولهذا اشترط في القاسم أن يكون عارفا بالتّقويم‏.‏ ويشترط في هذا النّوع من القسمة مقوّمان‏.‏

لأنّ التّقويم لا يثبت إلا باثنين، فاشترط العدد للتّقويم لا للقسمة، فإن لم يكن في القسمة ما يحتاج إلى تقويم كفى قاسم واحد، بناء على أنّ القاسم في التّقويم نائب عن الحاكم فيكون كالمخبر فيكتفى فيه بواحد كالقائف والمفتي والطّبيب‏.‏

وفي قول للشّافعيّة أنّه يشترط مقوّمان، بناء على المرجوح - عندهم - أنّ المقوّم شاهد لا حاكم‏.‏ وهذا الخلاف فيمن ينصبه الإمام، أمّا فيمن ينصبه الشّركاء فيكفي فيه قاسم واحد قطعا‏.‏ وللإمام جعل القاسم حاكما في التّقويم، وحينئذ فيعمل فيه بعدلين ذكرين يشهدان عنده بالقيمة لا بأقلّ منها‏.‏ وتتمّة هذا الموضوع في مصطلح ‏(‏قسمة‏)‏‏.‏

تقويم نصاب السّرقة

9 - من شرط إقامة حدّ السّرقة أن يبلغ المسروق نصاباً‏.‏

واختلف الفقهاء في تقويم نصاب السّرقة‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى تقويم نصاب السّرقة بالدّراهم‏.‏ بأن تبلغ قيمة المسروق عشرة دراهم، إن كان المسروق من غير الفضّة ولو كان ذهبا، وأن يكون عشرة دراهم وزنا وقيمة إذا كان المسروق من الفضّة‏.‏ وهو أحد الرّوايات الثّلاث عند الحنابلة‏.‏ لحديث أمّ أيمن - رضي الله عنها - قالت‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقطع يد السّارق إلا في حجفة» وقوّمت يومئذ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بدينار أو عشرة دراهم‏.‏ وقد اختلفت روايات الحديث فروي موقوفا ومرسلا، وروي موصولا مرفوعا من حديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم» وعلى القول بأنّه موقوف إلا أنّه مرفوع حكما لأنّ المقدّرات الشّرعيّة لا دخل للعقل فيها‏.‏

وفي حديث‏:‏ «لا يقطع السّارق إلا في عشرة دراهم» وقد اختلف في تقويم ثمن المجنّ فروي أنّه ثلاثة دراهم، وروي أنّه عشرة دراهم‏.‏ فوجب الأخذ بالأكثر درءاً للحدّ‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ المسروق يقوّم بالدّراهم وبالدّنانير‏.‏ والنّصاب ربع دينار شرعيّ من الذّهب، أو ثلاثة دراهم شرعيّة من الفضّة أو ما يساويهما‏.‏

وهو رواية عن الحنابلة بمعنى أنّ كلّا من الذّهب والفضّة أصل بنفسه، وعلى هذه الرّواية تقوّم غير الأثمان بأدنى الأمرين من ربع دينار أو ثلاثة دراهم‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى تقويم نصاب السّرقة بالدّنانير، بأن يبلغ المسروق قيمة ربع دينار من الذّهب والاعتبار بالذّهب المضروب‏.‏ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تقطع يد السّارق إلا في ربع دينار فصاعداً»‏.‏

فإن كان المسروق ذهباً وجب أن يبلغ ربع دينار وزناً وقيمة، وإن كان من غير الذّهب وجب أن تبلغ قيمته ربع دينار من الذّهب‏.‏

وفي رواية للحنابلة أنّ العروض لا تقوّم إلا بالدّراهم، ويكون الذّهب أصلا بنفسه لا غير‏.‏ ويكون تقويم المسروق بنقد البلد الغالب الّذي وقعت فيه السّرقة‏.‏ والمعتبر في القيمة قيمة الشّيء وقت إخراجه من الحرز لا قبله ولا بعده عند الجمهور والطّحاويّ من الحنفيّة‏.‏

وعند الحنفيّة تعتبر قيمة المسروق يوم السّرقة ووقت القطع بأن لا يقلّ فيهما عن نصاب‏.‏ فلو كانت قيمته يوم السّرقة عشرة، فنقصت وقت القطع لا يقام الحدّ‏.‏ إلا إذا كان النّقص بسبب عيب دخل المسروق أو فات بعضه‏.‏

كما يعتبر في تقويم المسروق مكان السّرقة، فلو سرق في بلد وكانت قيمته عشرة - مثلاً - فأخذ في بلد آخر وقيمته فيها أقلّ فلا يقام عليه الحدّ‏.‏

ويكفي في التّقويم واحد إن كان موجّها من القاضي، لأنّ تقويمه في هذه الحالة من باب الخبر لا من باب الشّهادة‏.‏ فإن لم يكن المقوّم موجّها من القاضي فلا بدّ من اثنين وإذا اختلف المقوّمان بأن قوّم أحدهما المسروق نصابا والآخر دون النّصاب كان هذا شبهة يدرأ بها الحدّ‏.‏ ولا يجب إقامة الحدّ إلا إذا قطع المقوّمون ببلوغ المسروق نصابا بأن يقولوا إنّ قيمته بلغت نصابا قطعا أو يقينا مثلاً‏.‏

وإن اختلف المقوّمون في تقويم المسروق لاختلاف قيمة ما قوّم به، بأن يقوّم مثلا بنقدين من الذّهب خالصين اعتبر أدناهما، والأوجه - كما يقول النّوويّ - أن يقوّم بأعلاهما قيمة درءا للحدّ‏.‏

تقويم حكومة العدل

10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجروح الّتي لم يقدّر الشّارع لها دية تجب فيها حكومة عدل‏.‏ ويقصد بالحكومة تقدير نسبة الجرح من الدّية الكاملة، وتكون هذه النّسبة هي دية الجرح‏.‏ وتعرف هذه النّسبة عن طريقين‏:‏

الطّريق الأوّل‏:‏ تقويم المجنيّ عليه على تقدير كونه عبدا سليما غير مجروح‏.‏

ثمّ يقوّم على تقدير كونه عبداً مجروحاً، وينظر كم نقصت الجناية من قيمته، فإذا قدّر النّقص بالعشر مثلا وجب على الجاني عشر دية النّفس‏.‏

وذلك لأنّ الحرّ لا يمكن تقويمه،فيقوّم على تقدير كونه عبدا‏.‏ فإنّ القيمة للعبد كالدّية للحرّ‏.‏

الطّريق الثّاني‏:‏ تقدير الجرح بنسبته من أقلّ جرح له أرش مقدّر وهو الموضحة، وهي الّتي توضح العظم أي تظهره، ومقدارها شرعا نصف عشر الدّية الكاملة، فيكون مقدار دية هذا الجرح بمقدار نسبته من الموضحة، فإن كان مقداره مثل نصف الموضحة مثلاً وجب فيه نصف دية الموضحة، وإن كان الثّلث وجب ثلث دية الموضحة وهكذا‏.‏

وهذا بناء على أنّ ما لا نصّ فيه يردّ إلى المنصوص عليه‏.‏ وهذا قول الكرخيّ من الحنفيّة‏.‏ وفي قول للشّافعيّة أنّ تقويم النّقص يكون بالنّسبة إلى العضو الّذي وقعت عليه الجناية إن كان لها أرش مقدّر‏.‏ فإن لم يكن لها أرش مقدّر تقوّم الحكومة بالنّسبة إلى دية النّفس‏.‏

11 - ويشترط في تقويم الحكومة شروط‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏ إن كانت الجناية على عضو له أرش مقدّر، يشترط فيها أن لا تبلغ الحكومة أرش ذلك العضو، فإن بلغت ذلك نقص القاضي منها شيئا باجتهاده، فحكومة جرح الأنملة العليا، أو قلع ظفرها لا تبلغ أرش الأنملة‏.‏

وكذلك حكومة الأصبع لا تبلغ حكومتها أرش الأصبع‏.‏

والجناية على الرّأس لا تبلغ حكومتها أرش الموضحة، وعلى البطن لا تبلغ أرش الجائفة‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ إن كانت الجناية على عضو ليس له أرش مقدّر كالظّهر والكتف والفخذ، فيجوز أن تبلغ حكومتها دية عضو مقدّر كاليد والرّجل وأن تزيد عليه، وإنّما يجب أن تنقص عن دية النّفس‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏ يجب أن يتمّ تقويم الحكومة بعد اندمال الجرح وبرئه، لاحتمال أن يسري تأثير الجناية إلى النّفس فيكون سببا للوفاة‏.‏ أو يسري إلى عضو له أرش مقدّر، فيختلف تقويم الحكومة بذلك، فتجب إمّا دية النّفس أو أرش العضو المقدّر‏.‏

تقويم جناية البهائم

12 - إذا جنت البهيمة على الزّرع مثلا فأتلفته وثبت ضمانه على صاحبها‏.‏ يقوّم أهل الخبرة والمعرفة الزّرع على تقدير تمامه وسلامته، وعلى تقدير تلفه وجائحته، ويضمن صاحب البهيمة مقدار النّقص بين الثّمنين‏.‏

وفي قول للمالكيّة‏:‏ إنّه يقوّم مرّتين‏:‏ مرّة على فرض تمامه، ومرّة على فرض عدم تمامه، ويجعل له قيمة بين القيمتين‏.‏

فيقال‏:‏ ما قيمته على فرض تمامه‏؟‏ فإن قيل‏:‏ عشرة، قيل‏:‏ وما قيمته على فرض عدم تمامه‏؟‏ فيقال‏:‏ خمسة‏.‏ فتضمّ القيمتان ويجعل على الضّامن نصفها فيلزمه سبعة ونصف‏.‏ وتفصيل أحكام جناية البهائم في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية، وبهيمة، وإتلاف‏)‏‏.‏

تقييد

التّعريف

1 - التّقييد‏:‏ مصدر قيّد، ومن معانيه في اللّغة جعل القيد في الرّجل، قال في المصباح‏:‏ قيّدته تقييدا جعلت القيد في رجله‏.‏ ومنه تقييد الألفاظ بما يمنع الاختلاط ويزيل الالتباس‏.‏ وأمّا عند الأصوليّين فيؤخذ من معنى المقيّد، وهو أنّه كما جاء في التّلويح - ما أخرج عن الشّيوع بوجه ما كرقبة مؤمنة‏.‏ - فالتّقييد - على هذا - إخراج اللّفظ المطلق عن الشّيوع بوجه ما، كالوصف، والظّرف، والشّرط‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وذكر الآمديّ أنّ المقيّد يطلق باعتبارين‏:‏

الأوّل‏:‏ ما كان من الألفاظ الدّالّة على مدلول معيّن كزيد وعمرو وهذا الرّجل ونحوه‏.‏ الثّاني‏:‏ ما كان من الألفاظ دالا على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك‏:‏ دينار مصريّ ودرهم مكّيّ‏.‏ والتّقييد في العقود‏:‏ هو التزام حكم التّصرّف القوليّ، لا يستلزمه ذلك التّصرّف في حال إطلاقه‏.‏ والأصوليّون والفقهاء يستعملونه في مقابل الإطلاق‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإضافة‏:‏

2 - تأتي الإضافة في اللّغة بمعنى الضّمّ والإمالة والإسناد والتّخصيص‏.‏

وأمّا الأصوليّون والفقهاء فإنّهم يستعملونها بمعنى الإسناد والتّخصيص، فإذا قيل‏:‏ الحكم مضاف إلى فلان أو من صفته كذا كان ذلك إسنادا إليه، وإذا قيل‏:‏ الحكم مضاف إلى زمان كذا كان تخصيصاً له، ويقصد بإضافة الحكم إلى الزّمن المستقبل إرجاء الوفاء بآثار التّصرّف إلى الزّمن المستقبل الّذي حدّده المتصرّف‏.‏

فالإضافة بمعانيها المتقدّمة فيها معنى التّقييد، لكنّه أعمّ منها،لأنّه يكون بالإضافة وبغيرها‏.‏

ب - الإطلاق‏:‏

3 - الإطلاق مصدر أطلق، ومن معانيه في اللّغة‏:‏ التّخلية، والحلّ والإرسال، وعدم التّقييد‏.‏ وأمّا عند الأصوليّين والفقهاء فيعرف معناه من معنى المطلق، وهو ما دلّ على شائع في جنسه‏.‏ ومعنى كونه شائعاً في جنسه، أنّه حصّة من الحقيقة محتملة لحصص كثيرة من غير شمول ولا تعيين‏.‏

ويأتي الإطلاق أيضاً بمعنى استعمال اللّفظ في معناه حقيقة كان أو مجازاً، كما يأتي بمعنى النّفاذ، فإطلاق التّصرّف نفاذه‏.‏ والفرق بين الإطلاق والتّقييد واضح، إذ الإطلاق شائع في جنسه، والتّقييد مخرج له عن ذلك الشّيوع بوجه ما‏.‏

ج - التّخصيص‏:‏

4 - التّخصيص‏:‏ مصدر خصّص، وهو في اللّغة‏:‏ ضدّ التّعميم‏.‏

والتّخصيص في الاصطلاح‏:‏ هو قصر العامّ على بعض أفراده بدليل مستقلّ مقترن به ومحصّل الفرق بينه وبين التّقييد، أنّ التّقييد من حيث هو يقتضي إيجاب شيء زائد على المطلق فيصلح ناسخاً، وأمّا التّخصيص فهو من حيث حقيقته لا يقتضي الإيجاب أصلاً، بل إنّما يقتضي الدّفع لبعض الحكم‏.‏

د - التّعليق‏:‏

5 - التّعليق‏:‏ مصدر علّق، ومعناه في اللّغة‏:‏ جعل الشّيء مرتبطا بغيره‏.‏

وأمّا في الاصطلاح‏:‏ فهو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى، ويسمّى يميناً مجازاً، لأنّه في الحقيقة شرط وجزاء، ولما فيه من معنى السّببيّة كاليمين‏.‏ والتّعليق يشبه التّقييد في المعنى لما فيه من الرّبط‏.‏

هـ - الشّرط‏:‏

6 - الشّرط بسكون الرّاء له عدد من المعاني منها‏:‏ إلزام الشّيء والتزامه‏.‏

وأمّا بفتح الرّاء فمعناه العلامة، ويجمع على أشراط كسبب وأسباب‏.‏

ومعناه في الاصطلاح كما قال الحمويّ‏:‏ التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة‏.‏ وهو يشبه التّقييد لما فيه من الالتزام‏.‏

الحكم الإجمالي

7 - ذكر الأصوليّون والفقهاء الأحكام الخاصّة بمصطلح تقييد في عدد من المواطن، ومن أشهر مسائله عند الأصوليّين مسألة حمل المطلق على المقيّد، وممّا قالوه في ذلك أنّ المطلق والمقيّد إمّا أن يختلفا في السّبب والحكم، وإمّا أن يتّفقا فيهما، وإمّا أن يختلفا في السّبب دون الحكم، فإن كان الأوّل فلا حمل اتّفاقا، كما قال الآمر لمن تلزمه طاعته‏:‏ اشتر لحم ضأن، وكل لحما، فلا يحمل هذا على ذاك، وإن كان الثّاني فيحمل المطلق على المقيّد اتّفاقا، كما في قوله تعالى كفّارة اليمين‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ‏}‏ مع قراءة ابن مسعود ‏"‏ فصيام ثلاثة أيّام متتاليات ‏"‏ وإن كان الثّالث وهو الاختلاف في السّبب دون حكم فهو محلّ الخلاف‏.‏ فذهب الحنفيّة وأكثر المالكيّة إلى عدم جواز حمل المطلق على المقيّد، وذهب الشّافعيّة إلى الجواز‏.‏ ومثاله‏:‏ قوله تعالى في كفّارة الظّهار‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ وفي القتل‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ‏}‏‏.‏

8 - هذا والتّقييد عند الأصوليّين كالتّخصيص في الجملة، فما جاز تخصيص العامّ به يجوز تقييد المطلق به وما لا فلا‏.‏ والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

وأمّا الفقهاء فقد ذكروا التّقييد في كثير من أبواب الفقه، فذكروه في الاعتكاف والبيع، والإجارة، والعاريّة، والضّمان، والوكالة، والإقرار، واليمين، والكفّارات‏.‏

ففي الاعتكاف على سبيل المثال يذكرون أنّ المعتكف يتقيّد بما ألزم به نفسه وما نواه من حيث التزام التّتابع في الاعتكاف أيّاما إن نواه‏.‏ وذكروا في البيع مسائل كثيرة في تقييده بشرط صحيح أو فاسد، ومسائل تتعلّق بخيار الشّرط يرجع إليها في موضعها‏.‏

وذكروا في الإجارة أنّها تكون مطلقة ومقيّدة بمدّة أو عمل أو شرط، ويضمن المستأجر في حال مخالفته للشّرط الّذي قيّد به المالك الإجارة كما إذا آجره دابّة ليركبها هو فقط فأركبها غيره فتلفت، بل إنّ الحنفيّة ذكروا أنّ عقد الإجارة قد يتقيّد دلالة كما إذا آجره دارا للسّكنى وأطلق فإنّه لا يجوز له أن يؤجّرها لحدّاد أو نحوه، لأنّ ذلك يوهن البناء فيتقيّد العقد دلالة‏.‏ ولكن له أن يسكن غيره ممّن هو في حكمه ولا يختلف حاله عن حاله في الاستعمال‏.‏

وأمّا العاريّة فقد ذكروا أنّها تتقيّد بالشّرط وبالمسافة وبالمدّة وبالعمل، فإذا خالف المستعير شرط المعير بحيث أدّى ذلك إلى تلف المستعار ضمن‏.‏ كما إذا أعاره دابّة ليحمل عليها عشرة أكياس من الشّعير فليس له أن يحمل عليها عشرة أكياس من حنطة، لأنّها أثقل من الشّعير‏.‏

وأمّا الوكالة فإنّه يجب على الوكيل التزام ما قيّده به الموكّل، بلا خلاف‏.‏

وأمّا الإقرار فإنّه يكون مطلقا ويكون مقيّدا من حيث الصّيغة، والتّفصيل يرجع إليه في مصطلح ‏(‏إقرار‏)‏‏.‏

وأمّا اليمين فقد ذكر الفقهاء أنّها تكون مطلقة ومقيّدة‏.‏ واليمين المطلقة تصير مقيّدة بدلالة الحال، كما لو حلّفه وال ليعلمنّه بكلّ مفسد دخل البلدة، فإنّ حلفه هذا يتقيّد بزمن ولايته‏.‏ وذكر المالكيّة أنّ اليمين المطلقة يقيّدها العرف الفعليّ‏.‏

وذكر النّوويّ أنّ الأصل المرجوع إليه في البرّ والحنث، اتّباع مقتضى اللّفظ الّذي تعلّقت به اليمين، وقد يتطرّق إليه التّقييد والتّخصيص، بنيّة تقترن به أو باصطلاح خاصّ أو قرينة‏.‏ ثمّ ذكر أنّ الصّور الّتي تدخل تحت هذا الباب لا تتناهى، وقد اقتصر على ذكر ما يكثر استعماله منها، وهي الّتي ذكرها الشّافعيّ والأصحاب‏.‏

وأورد البهوتيّ في باب جامع الأيمان صورا كثيرة في إطلاق اليمين وتقييدها‏.‏

وقد بحث الفقهاء التّقييد أيضا بالإضافة إلى ما سبق في السّلم والطّلاق والولاية والعتق‏.‏ وتفصيل ذلك في المصطلحات الخاصّة بها‏.‏

تقيّة

التّعريف

1 - التّقيّة اسم مصدر من الاتّقاء، يقال‏:‏ اتّقى الرّجل الشّيء يتّقيه، إذا اتّخذ ساتراً يحفظه من ضرره، ومنه الحديث‏:‏ «اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة»‏.‏

وأصله من وقى الشّيء، يقيه، إذا صانه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَقَاه اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا‏}‏ أي حماه منهم فلم يضرّه مكرهم‏.‏ ويقال في الفعل أيضا‏:‏ تقاه يتّقيه‏.‏ والتّاء هنا منقلبة عن الواو‏.‏ والتّقاة والتّقيّة والتّقوى والتّقى والاتّقاء، كلّها بمعنى واحد في استعمال أهل اللّغة‏.‏ أمّا في اصطلاح الفقهاء فإنّ التّقوى والتّقى خصّا باتّقاء العبد للّه تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه والخوف من ارتكاب ما لا يرضاه، لأنّ ذلك هو الّذي يقي من غضبه وعذابه‏.‏ وأمّا التّقاة والتّقيّة فقد خصّتا في الاصطلاح باتّقاء العباد بعضهم بعضاً‏.‏

وأصل ذلك قول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لا يَتَّخِذ المؤمِنُونَ الكَافِرينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنين، ومَنْ يَفْعَلْ ذلكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ في شَيء إلا أنْ تَتَّقُوا مِنْهمْ تُقَاةً‏}‏‏.‏

وقد عرّفها السّرخسيّ بقوله‏:‏التّقيّة أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره وإن كان يضمر خلافه‏.‏ وعرّفها ابن حجر بقوله‏:‏ التّقيّة الحذر من إظهار ما في النّفس من معتقد وغيره للغير‏.‏ والتّعريف الأوّل أشمل، لأنّه يدخل فيه التّقيّة بالفعل إضافة إلى التّقيّة بالقول والتّقيّة في العمل كما هي في الاعتقاد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المداراة‏:‏

2 - المداراة ملاينة النّاس ومعاشرتهم بالحسنى من غير ثلم في الدّين من أيّ جهة من الجهات والإغضاء عن مخالفتهم في بعض الأحيان‏.‏ وأصلها ‏"‏ المدارأة ‏"‏ بالهمز، من الدّرء وهو الدّفع، والمداراة مشروعة، وذلك لأنّ وداد النّاس لا يستجلب إلا بمساعدتهم على ما هم عليه‏.‏ والبشر قد ركّب فيهم أهواء متباينة، وطباع مختلفة، ويشقّ على النّفوس ترك ما جبلت عليه، فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلا بمعاشرتهم على ما هم عليه من المخالفة لرأيك وهواك‏.‏ والفرق بين المداراة والتّقيّة‏:‏ أنّ التّقيّة غالباً لدفع الضّرر عند الضّرورة، وأمّا المداراة فهي لدفع الضّرر وجلب النّفع‏.‏

ب - المداهنة‏:‏

3 - قال ابن حبّان‏:‏ متى ما تخلّق المرء بخلق يشوبه بعض ما يكرهه اللّه فتلك هي المداهنة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون‏}‏ فسّره الفرّاء، كما في اللّسان بقوله‏:‏ ودّوا لو تلين في دينك فيلينون‏.‏ وقال أبو الهيثم‏:‏ أي‏:‏ ودّوا لو تصانعهم في الدّين فيصانعوك‏.‏ وهذا ليس بمخالف لما تقدّم عن ابن حبّان، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالصّدع بالدّعوة وعدم المصانعة في إظهار الحقّ وعيب الأصنام والآلهة الّتي اتّخذوها من دون اللّه تعالى، فكان تليين القول في هذا الميدان مداهنة لا يرضاها اللّه تعالى لأنّ فيها ترك ما أمر اللّه به من الجهر بالدّعوة‏.‏

والفرق بين المداهنة والتّقيّة‏:‏ أنّ التّقيّة لا تحلّ إلا لدفع الضّرر، أمّا المداهنة فلا تحلّ أصلا، لأنّها اللّين في الدّين وهو ممنوع شرعاً‏.‏

ج - النّفاق‏:‏

4 - النّفاق هو أن يظهر الإيمان ويستر الكفر، وقد يطلق النّفاق على الرّياء، قال صاحب اللّسان‏:‏ لأنّ كليهما إظهار غير ما في الباطن‏.‏

قال ابن تيميّة‏:‏ أساس النّفاق الّذي بني عليه هو الكذب، وأن يقول الرّجل بلسانه ما ليس في قلبه، كما أخبر اللّه تعالى عن المنافقين أنّهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‏.‏ والصّلة بين التّقيّة وبين النّفاق، أنّ المنافق كافر في قلبه لكنّه يظهر بلسانه وظاهر حاله أنّه مؤمن ويعمل أعمال المؤمنين ليأمن على نفسه في المجتمع الإسلاميّ وليحصّل الميزات الّتي يحصّلها المؤمن‏.‏ فهو مغاير للتّقيّة، لأنّها إظهار المؤمن عند الخوف على نفسه ما يأمن به من أمارات الكفر أو المعصية مع كراهته لذلك في قلبه، واطمئنانه بالإيمان‏.‏

مشروعيّة العمل بالتّقيّة

5 - يذهب جمهور علماء أهل السّنّة إلى أنّ الأصل في التّقيّة هو الحظر، وجوازها ضرورة، فتباح بقدر الضّرورة‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ والتّقيّة لا تحلّ إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم، ولم ينقل ما يخالف ذلك فيما نعلم إلّا ما روي عن معاذ بن جبل من الصّحابة، ومجاهد من التّابعين، وإنّما ذهب الجمهور إلى ذلك لأنّ اللّه تعالى نصّ عليها في كتابه بقوله‏:‏ ‏{‏لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمنين ومَنْ يَفْعَلْ ذَلكَ فَلَيسَ مِن اللَّهِ في شَيءٍ إلا أنْ تَتَّقُوا مِنْهم تُقَاةً‏}‏ قال ابن عبّاس في تفسيرها‏:‏ نهى اللّه المؤمنين أن يلاطفوا الكفّار، أو يتّخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفّار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللّطف ويخالفونهم في الدّين‏.‏

6 - ومن الأدلّة على مشروعيّة التّقيّة للضّرور ة قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيْمَانِه إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَئنّ بِالإيمَانِ وَلَكنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيهمْ غَضَبٌ مِن اللَّهِ وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ وسبب نزول الآية «أنّ المشركين أخذوا عمّارا فلم يتركوه حتّى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فتركوه‏.‏ فلمّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ شرّ، ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير‏.‏ قال‏:‏ كيف تجد قلبك‏؟‏ قال‏:‏ مطمئنّ بالإيمان‏.‏ قال‏:‏ إن عادوا فعد، فنزلت ‏{‏إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَئنٌّ بِالإيمَانِ‏}‏»‏.‏

7 - ومن الأدلّة على جواز التّقيّة للضّرورة ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن، «أنّ مسيلمة الكذّاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما‏:‏ أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ نعم‏.‏ نعم‏.‏ قال أتشهد أنّي رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ نعم وكان مسيلمة يزعم أنّه رسول بني حنيفة وأنّ محمّداً رسول قريش - ثمّ دعا بالآخر، فقال‏:‏ أتشهد أنّ محمّدا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أفتشهد أنّي رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ إنّي أصمّ‏.‏ قالها ثلاثاً، كلّ ذلك يجيبه بمثل الأوّل‏.‏ فضرب عنقه‏.‏ فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أمّا ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئا له‏.‏ وأمّا الآخر فقبل رخصة اللّه فلا تبعة عليه» ‏.‏

وقال الحسن‏:‏ التّقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة‏.‏ وقد نسب القرطبيّ إنكار التّقيّة إلى معاذ بن جبل، ونسبه الرّازيّ والقرطبيّ إلى مجاهد، قالا‏:‏ ‏"‏ كانت التّقيّة في جدّة الإسلام قبل قوّة المسلمين فأمّا اليوم فقد أعزّ اللّه أهل الإسلام أن يتّقوا عدوّهم ‏"‏‏.‏

ونقل السّرخسيّ عن قوم لم يسمّهم أنّهم كانوا يأبون التّقيّة، ويقولون‏:‏ هي من النّفاق‏.‏

التّقيّة من الأنبياء

8 - قال السّرخسيّ‏:‏ إنّ هذا النّوع - يعني النّطق بكلمة الكفر تقيّة - يجوز لغير الرّسل‏.‏ فأمّا في حقّ المرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدّعوة إلى الدّين الحقّ، وتجويز ذلك محال - أي ممنوع شرعاً - لأنّه يؤدّي إلى أن لا يقطع القول بما هو شريعة، لاحتمال أن يكون فعل ذلك أو قاله تقيّة‏.‏

وهو يشير بذلك إلى ما يبيّنه أهل الأصول من أنّ حجّيّة السّنّة النّبويّة متوقّفة على كون كلّ ما أتى به النّبيّ صلى الله عليه وسلم حقّا، إذ لو تطرّق إلى أقواله أو أفعاله احتمال أنّه فعل أو قال أشياء من ذلك على سبيل التّقيّة وهي حرام، لكان ذلك تلبيسا في الدّين، ولما حصلت الثّقة بأقوال النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأفعاله‏.‏

وكذلك السّكوت منه صلى الله عليه وسلم على ما يراه ويسمعه من أصحابه إقرار تستفاد منه الأحكام الشّرعيّة، فلو كان بعض سكوته يكون تقيّة لالتبست الأحكام على المسلمين‏.‏

وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ على النَّبيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ له سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرَاً مَقْدُورَاً الَّذينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَونَه وَلا يَخْشَونَ أحَدَاً إلا اللَّهَ وَكَفَى باللَّهِ حَسِيبَاً‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ‏}‏ قال القرطبيّ‏:‏ دلّت الآية على ردّ قول من قال إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدّين تقيّة، وعلى بطلانه وهم الرّافضة‏.‏

قال شارح مسلّم الثّبوت‏:‏ ما من نبيّ إلا بعث بين أعدائه، فلعلّه - أي في حال افتراض عمله بالتّقيّة - كتم شيئاً من الوحي خوفاً منهم، وكذا محمّد صلى الله عليه وسلم بعث بين أعدائه، ولم يكن له ولأصحابه قدرة لدفعهم فيلزم على تجويز التّقيّة له احتمال كتمانه شيئاً من الوحي، وأن لا ثقة بالقرآن‏.‏ فانظر إلى شناعة هذا القول وحماقته‏.‏

على أنّ امتناع التّقيّة على الأنبياء لا يعني عدم عملهم بالملاطفة واللّين والمداراة للنّاس كما تقدّم، أي من دون إخلال بفريضة أو ارتكاب لمحرّم‏.‏

حكم العمل بالتّقيّة

9 - تقدّمت الأدلّة على جواز العمل بالتّقيّة‏.‏ وقد اختلف في حكمها‏.‏

فقيل‏:‏ إذا وجد سببها وتحقّق شرطها فهي واجبة، لأنّ إنقاذ النّفس من الهلكة أو الإيذاء العظيم ونحو ذلك لا يحصل إلّا بها في تقدير المكلّف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

والصّحيح عند العلماء أنّ الأولى للإنسان أن يثبت على ما هو عليه من الحقّ بظاهره، كما هو عليه بباطنه‏.‏ وقد يكون الثّبات أفضل وأعظم أجراً ومثوبة ولو كان العذر قائماً، وثبت هذا بالأدلّة الصّحيحة في الكتاب والسّنّة، فمن الكتاب ما في سورة البروج، فقد حكى اللّه تعالى قصّة الّذين صبروا على عذاب الحريق في الأخدود، واختاروا ذلك على أن يظهروا الرّجوع عن دينهم‏.‏ وثناء اللّه تعالى عليهم بذلك الثّبات يدلّ على تفضيل موقفهم على موقف العمل بالتّقيّة في قضيّة إظهار الكفر‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبينَ‏}‏‏.‏

وممّا يستدلّ به على ذلك من السّنّة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تشرك باللّه شيئا وإن قُتِلْتَ وحُرِّقْتَ» وكذلك ما تقدّم في مسألة مسيلمة، فقد عذر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّحابيّ الّذي وافق مسيلمة وقال فيه‏:‏ «لا تبعة عليه» وقال في حقّ الّذي ثبت فقتل‏:‏ «مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئاً له» وهذا يدلّ على التّفضيل‏.‏ واحتجّ السّرخسيّ أيضاً بقصّة «خبيب بن عديّ لمّا امتنع من موافقة قريش على الكفر حتّى قتلوه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو أفضل الشّهداء وقال‏:‏ هو رفيقي في الجنّة»‏.‏ 10 - وقد بوّب البخاريّ رحمه الله لهذه المسألة باباً بعنوان ‏"‏ باب من اختار الضّرب والقتل والهوان على الكفر ‏"‏ أورد فيه حديث خبّاب بن الأرتّ أنّه قال «شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة في ظلّ الكعبة، فقلنا‏:‏ ألا تستنصر لنا‏؟‏ ألا تدعو لنا‏؟‏ فقال‏:‏ قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل، فيحفر له في الأرض فيجعل له فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه فيجعل نصفين، ويمشّط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه ثمّ قال صلى الله عليه وسلم واللّه ليتمّنّ اللّه هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللّه والذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون»‏.‏ وهو واضح الدّلالة على المقصود‏.‏

وهكذا كلّ أمر فيه إعزاز للدّين وإعلاء لكلمة اللّه وإظهار لثبات المسلمين وبسالتهم، وتثبيت لعامّة المسلمين على الحقّ، يكون الثّبات على الحقّ وإظهاره أولى من التّقيّة، وهذا بخلاف نحو الإكراه على شرب الخمر وأكل الميتة وحيث لا تظهر المصالح المذكورة‏.‏ قال الفخر الرّازيّ‏:‏ اعلم أنّ للتّقيّة أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها‏:‏

11 - الحكم الأوّل‏:‏ أنّ التّقيّة إنّما تكون إذا كان الرّجل في قوم كفّار، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللّسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللّسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبّة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرّض في كلّ ما يقول، فإنّ التّقيّة تأثيرها في الظّاهر لا في أحوال القلوب‏.‏

12 - الحكم الثّاني للتّقيّة‏:‏ أنّه لو أفصح بالإيمان والحقّ حيث يجوز له التّقيّة كان ذلك أفضل، ودليله ما ذكرناه في قصّة مسيلمة‏.‏

13 - الحكم الثّالث للتّقيّة‏:‏ أنّها إنّما تجوز فيما يتعلّق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضا فيما يتعلّق بإظهار الدّين فأمّا ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزّنى وغصب الأموال والشّهادة بالزّور وقذف المحصنات واطّلاع الكفّار على عورات المسلمين، فذلك غير جائز ألبتّة‏.‏

14 - الحكم الرّابع‏:‏ ظاهر الآية يدلّ على أنّ التّقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين إلا أنّ مذهب الشّافعيّ رضي الله عنه أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التّقيّة محاماة على النّفس‏.‏

15 - الحكم الخامس‏:‏ التّقيّة جائزة لصون النّفس، وهل هي جائزة لصون المال‏؟‏ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز، لقوله صلى الله عليه وسلم «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ولقوله صلى الله عليه وسلم «من قتل دون ماله فهو شهيد» ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التّيمّم دفعا لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز هاهنا‏.‏

16 - الحكم السّادس‏:‏ قال مجاهد‏:‏ هذا الحكم كان ثابتا في أوّل الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأمّا بعد قوّة دولة الإسلام فلا، وروى عوف عن الحسن‏:‏ أنّه قال التّقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأنّ دفع الضّرر عن النّفس واجب بقدر الإمكان‏.‏

شروط جواز التّقيّة

17 - أ - يشترط لجواز التّقيّة أن يكون هناك خوف من مكروه،على ما يذكر تفصيله بعد‏.‏ فإن لم يكن هناك خوف ولا خطر لم يجز ارتكاب المحرّم تقيّة، وذلك كمن يفعل المحرّم تودّدا إلى الفسّاق أو حياء منهم‏.‏ وإن قال خلاف الحقيقة كان كاذبا آثما، وكذا من أثنى على الظّالمين أو أعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم وحسن طريقتهم لتحصيل المصلحة منهم دون أن يكون عليه خطر منهم لو سكت، فإنّه يكون كاذبا آثماً مشاركا لهم في ظلمهم وفسقهم‏.‏ وإن كان فيما صدّقهم به عدوان على مسلم فذلك أعظم، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة فهو آيس من رحمة اللّه»‏.‏

18 - ب - قيل‏:‏ يشترط لجواز التّقيّة أن تكون مع الكفّار الغالبين وسبق قول الرّازيّ أنّ مذهب الشّافعيّ رضي الله عنه أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التّقيّة محاماة عن النّفس‏.‏

19 - ج - أن يعلم أنّه إن نطق بالكفر ونحوه تقيّة يترك بعد ذلك‏.‏ وهذا الاشتراط منقول عن الإمام أحمد، فقد سئل عن الرّجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه، هل له أن يرتدّ - أي ظاهراً - فكرهه كراهة شديدة وقال‏:‏ ما يشبه هذا عندي الّذين أنزلت فيهم الآية من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثمّ يتركون يفعلون ما شاءوا، وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وذلك لأنّ الّذي يكره على كلمة يقولها ثمّ يخلّى لا ضرر فيها، وهذا المقيم بينهم يلتزم بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه واستحلال المحرّمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات وإن كان امرأة تزوّجوها واستولدوها أولادا كفّارا‏.‏ وكذلك الرّجل‏.‏ وظاهر حالهم المصير إلى الكفر الحقيقيّ والانسلاخ من الإسلام‏.‏

وحاصله أنّه يجوز إظهار الكفر إن علم أنّه يترك بعد ذلك، أمّا إن كان مآله الالتزام بالإقامة بين أظهر الكفّار يجرون عليه أحكام الكفر ويمنعونه من إظهار دينه فليس له أن يوافقهم على إظهار الكفر‏.‏ وحينئذ فإن قدر على الهجرة من مثل تلك الأرض إلى حيث يتمكّن من إظهار دينه والعمل به فليس له الإقامة المذكورة بعذر التّقيّة‏.‏

20 - د - ويشترط لجواز التّقيّة أن لا يكون للمكلّف مخلّص من الأذى إلّا بالتّقيّة، وهذا المخلّص قد يكون الهرب من القتل أو القطع أو الضّرب، وقد يكون التّورية عند الإكراه على الطّلاق، وعدم الدّهشة وهذا عند بعض الفقهاء، وقد تكون الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام‏.‏ فإن أمكنته الهجرة لم يكن له موالاة الكفّار وترك إظهار دينه لقوله تعالى‏:‏

‏{‏إنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُم المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسَهم قَالوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيها فَأولئكَ مَأْوَاهمْ جَهنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرَاً‏}‏

قال الألوسيّ‏:‏ اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وعن إدخالهم الخلل فيه وعن العجز عن القيام بواجبات الدّين بأنّهم كانوا مقهورين تحت أيدي المشركين، وأنّهم فعلوا ذلك كارهين‏.‏ فلم تقبل الملائكة عذرهم لأنّهم كانوا متمكّنين من الهجرة، فاستحقّوا عذاب جهنّم لتركهم الفريضة المحتومة‏.‏

ومقتضاه أنّ من كان مقهوراً لا يقدر على الهجرة حقيقة لضعفه أو لصغر سنّه وسواء أكان رجلا أم امرأة بحيث يخشى التّلف لو خرج مهاجرا فذلك عذر في الإقامة وترك الهجرة‏.‏ وقد صرّحت بهذا المعنى الآيتان التّاليتان للآية السّابقة وهما ‏{‏إلا المُسْتَضْعَفِينَ مِن الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَان لا يَسْتَطِيعونَ حِيلَةً ولا يَهْتَدونَ سَبِيلاً‏.‏ فَأولئكَ عَسَى اللَّهُ أنْ يَعْفُو عَنْهم وَكَانَ اللَّهُ عَفُوَّاً غَفُورَاً‏}‏ وقال الألوسيّ أيضاً ‏"‏ كلّ مؤمن وقع في محلّ لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرّض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محلّ يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبّث بعذر الاستضعاف، فإنّ أرض اللّه واسعة‏.‏

نعم إن كان ممّن له عذر شرعيّ في ترك الهجرة كالنّساء والصّبيان والعميان والمحبوسين والّذين يخوّفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمّهات تخويفا يظنّ معه إيقاع ما خوّفوا به غالبا، سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو حبس القوت أو بنحو ذلك، فإنّه يجوز له المكث مع المخالف، والموافقة بقدر الضّرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه‏.‏ وإن كان التّخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقّة الّتي يمكن تحمّلها كالحبس مع القوت، والضّرب القليل غير المهلك فإنّه لا يجوز له موافقتهم‏.‏

21 - هـ - ويشترط أن يكون الأذى المخوف وقوعه ممّا يشقّ احتماله‏.‏

والأذى إمّا أن يكون بضرر في نفس الإنسان أو ماله أو عرضه‏.‏ أو في الغير، أو تفويت منفعة‏.‏ فالأوّل كخوف القتل أو الجرح أو قطع عضو أو الحرق المؤلم أو الضّرب الشّديد أو الحبس مع التّجويع ومنع الطّعام والشّراب‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ أو خوف صفع ولو قليلا لذي مروءة على ملأ من النّاس‏.‏

أمّا التّجويع اليسير والحبس اليسير والضّرب اليسير فلا تحلّ به التّقيّة ولا يجيز إظهار موالاة الكافرين أو ارتكاب المحرّم‏.‏ ورخّص البعض في التّقيّة لأجله‏.‏ روى شريح أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال‏:‏ ليس الرّجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذّب‏.‏ وفي لفظ‏:‏ أربع كلّهنّ كره‏:‏ السّجن والضّرب والوعيد والقيد‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلا كنت متكلّماً به‏.‏

وأمّا العرض فكأن يخشى على حُرَمِهِ من الاعتداء‏.‏ وأمّا الخوف على المال فقد قال الرّازيّ‏:‏ فيما سبق بيانه‏:‏ التّقيّة جائزة لصون النّفس وهل هي جائزة لصون المال‏؟‏ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»‏.‏ وقوله «من قتل دون ماله فهو شهيد» ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بيع بغبن فاحش سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التّيمّم دفعا لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز هاهنا‏؟‏ وقال مالك إنّ التّخويف بأخذ المال إكراه ولو قليلا وفي مذهبه غير ذلك‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ الإكراه يختلف‏.‏ واستحسن هذا القول ابن عقيل‏.‏ أي يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأمر المكره عليه والأمر المخوف فربّ أمر يرهب منه شخص ضعيف ولا يرهبه شخص قويّ شجاع‏.‏ وربّ شخص ذي وجاهة يضع الحبس ولو يوما من قدره وجاهه فوق ما يضع الحبس شهرا من قدر غيره وربّ تهديد أو ضرب يسير يستباح به الكذب اليسير ويلغى بسببه الإقرار بالمال اليسير، ولا يستباح به الإقرار بالكفر أو المال العظيم‏.‏ وينظر في ذلك أيضا مصطلح ‏(‏إكراه‏)‏‏.‏

وأمّا خوف فوت المنفعة فقد قال فيه الألوسيّ في مختصر التّحفة إنّه لا يجيز التّقيّة‏.‏

وذلك كمن يخشى إن لم يظهر المحرّم أن يفوته تحصيل منصب أو مال يرجو حصوله وليس به إليه ضرورة‏.‏ وهذا هو الصّواب ويدلّ عليه من القرآن قول اللّه تعالى ‏{‏وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيَثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه لِلناسِ وَلا تَكْتُمُونَه فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهُورِهمْ وَاشْتَرَوا بِه ثَمَنَاً قَلِيلاً فَبئسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏ ذمّهم على الكتمان في مقابلة مصالح عاجلة‏.‏ أي من مال أو جاه‏.‏ لأنّ قول الكذب والغيبة والنّميمة ونحوها وقول الإنسان بلسانه خلاف ما في قلبه كلّ ذلك محرّم والكاذب مثلا لا يكذب إلا لمصلحة يرجوها من وراء كذبه، ولو سئل لقال إنّما كذبت لغرض كذا وكذا أريد تحصيله، فلو جاز الكذب لتحصيل المنفعة لعاد كلّ كذب مباحا ويكون هذا قلبا لأحكام الشّريعة وإخراجا لها عن وضعها الّذي وضعت عليه‏.‏

أنواع التّقيّة

22 - التّقيّة إمّا أن تكون بسبب إكراه بتهديد المسلم بما يضرّه من تعذيب أو نحوه ممّا تقدّم بيانه، إن لم يفعل ما طلب منه، وإمّا أن لا تكون بسبب إكراه‏.‏

فأمّا ما كان منها بسبب إكراه، وقد تمّت شروطه، فإنّ ما أنشأه من التّصرّفات تبعا لذلك لا يلزمه، وإن أكره على القتل لم يحلّ له، وإن أكره على الزّنى لم يحلّ له، فإن فعل فلا حدّ عليه للشّبهة، وإن أكره على النّطق بكلمة الكفر جاز له ذلك‏.‏ ولا يعتبر مرتدّاً‏.‏

وهذا إجمال ينظر تفصيله في مصطلح ‏(‏إكراه‏)‏‏.‏ أمّا التّقيّة بغير سبب الإكراه، بل لمجرّد خوف المسلم من أن يحلّ به الأذى من قتل أو قطع أو ضرب أو سجن أو غيره من صنوف الأذى والضّرر فهذا النّوع لا يحلّ به ما يحلّ بالإكراه‏.‏ والتّفصيل في إكراه‏.‏

ما تحلّ فيه التّقيّة

23 - اختلف الفقهاء فيما تحلّ فيه التّقيّة وما لا تحلّ، فذهب بعضهم إلى أنّ التّقيّة خاصّة بالقول، ولا تتعدّى إلى الفعل، وعليه فلا يرخّص بحال بالسّجود لصنم أو بأكل لحم الخنزير أو بزنى‏.‏ وهذا مرويّ عن الأوزاعيّ وسحنون‏.‏

وذهب الأكثرون إلى أنّ الإكراه في القول والفعل سواء‏.‏ وهذا هو المعتمد على تفصيل وخلاف يعرف ممّا في بحث ‏(‏إكراه‏)‏ ومن التّفصيل التّالي‏:‏

إظهار الكفر وموالاة الكفّار

تقدّم بيان جوازه عند خوف القتل والإيذاء العظيم، وأنّ الصّبر على الأذى فيه أفضل من ارتكابه تقيّة‏.‏ وقد تكون التّقيّة بإظهار الموالاة ولو لم يكره على النّطق بالكفر لكن يخاف على نفسه أو ماله إن أظهر لهم العداء، قال الرّازيّ‏:‏ بأن لا يظهر لهم العداوة باللّسان، ويجوز أن يظهر الكلام الموهم للمحبّة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرّض في كلّ ما يقول، فإنّ التّقيّة تأثيرها في الظّاهر لا في أحوال القلوب‏.‏

ولو أكره على كفر فعليّ كالسّجود لصنم أو إهانة مصحف فالظّاهر أنّه يرخّص له في فعله تقيّة، قال ابن حجر في قوله تعالى ‏{‏إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ‏}‏ قال‏:‏ الكفر يكون بالقول والفعل من غير اعتقاد وقد يكون باعتقاد، فاستثنى الأوّل وهو المكره‏.‏

أكل لحم الميتة ونحوه

24 - يباح للمكره شرب الخمر وأكل لحم الميتة أو لحم الخنزير وذلك على سبيل التّقيّة إذا وجدت شروطها لأنّ حرمة هذه الأشياء ثابتة بالشّرع، وهي مفسدة في حال الاختيار، فإنّ اللّه تعالى استثنى حال الضّرورة من التّحريم بقوله عزّ وجلّ ‏{‏إلا مَا اضْطررتُم إليه‏}‏ فظهر أنّ التّحريم مخصوص بحالة الاختيار، وقد تحقّقت الضّرورة هنا لخوف التّلف على نفسه بسبب الإكراه‏.‏‏.‏ فإن لم يفعل حتّى قتل يكون آثماً‏.‏ وعن أبي يوسف لا يكون آثماً‏.‏

التّقيّة في بعض أفعال الصّلاة

25 - إن خاف المصلّي على نفسه عدوّا يراه إذا قام ولا يراه إذا قعد جازت صلاته قاعداً وسقط عنه فرض القيام‏.‏

وكذا الأسير لدى الكفّار إن خافهم على نفسه إن رأوه يصلّي فإنّه يصلّي كيفما أمكنه، قائما أو قاعدا أو مضطجعا أو مستلقيا، إلى القبلة وغيرها، بالإيماء حضراً أو سفراً، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ومثله المختبئ في مكان يخاف أن يظهر عليه العدوّ إن خرج ولا يمكنه أن يصلّي في مكانه على صفة الكمال‏.‏

ولو خاف المصلّي من عدوّه الضّرر إن رآه يركع ويسجد فله أن يومئ بطرفه وينوي بقلبه‏.‏

والحنابلة لا يرون الصّلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد يصلّيان بمكان واحد من البلد، فإن خاف منه إن ترك الصّلاة خلفه فإنّه يصلّي خلفه تقيّة ثمّ يعيد الصّلاة‏.‏ واحتجّوا بما روي عن جابر أنّه قال‏:‏ «سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم على منبره يقول لا تؤمّنّ امرأة رجلا، ولا فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه»‏.‏ وقد ذكر ابن قدامة حيلة في تلك الحال يمكن اعتبارها من التّقيّة لما فيها من الاستتار، وهي أن يصلّي خلفه بنيّة الانفراد، فيوافق الإمام في الرّكوع والسّجود والقيام والقعود، فتصحّ صلاته لأنّه أتى بأفعال الصّلاة وشروطها على الكمال، فلا تفسد بموافقة غيره في الأفعال‏.‏

التّقيّة في البيع وغيره من التّصرّفات

26 - إذا خاف على ماله من ظالم يغصبه، فيواطئ رجلاً على أن يظهر أنّه اشتراه منه ليحتمي بذلك ولا يريدان بيعاً حقيقيّاً‏.‏

وهذا البيع صحيح عند أبي حنيفة والشّافعيّ وباطل عند الحنابلة وأبي يوسف ومحمّد‏.‏

أمّا عند المالكيّة ففي تبصرة الحكّام‏:‏ يجوز الاسترعاء في البيع وهو أن يشهد قبل البيع أنّي إن بعت هذه الدّار فإنّما أبيعها لأمر أخافه من قبل ظالم أو غاصب، ولا يثبت الاسترعاء في هذه الحال إلا إن كان الشّهود يعرفون الإكراه على البيع والإخافة الّتي يذكرها‏.‏ والاسترعاء عند المالكيّة يصحّ ويفيد صاحبه في كلّ تصرّف تطوّعيّ كالطّلاق والوقف والهبة‏.‏ فإن فعل لم يلزمه أن ينفّذ شيئا من ذلك، وإن لم يعلم الشّهود السّبب، بخلاف مسألة البيع، إذ المبايعة خلاف ما يتطوّع به وقد أخذ البائع فيه ثمنا وفي ذلك حقّ للمبتاع‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ من استرعي في وقف على تقيّة اتّقاها ثمّ أشهد بعد ذلك على إمضائه جاز لأنّه لم يزل على ملكه‏.‏

وإن استرعى أنّه يترك حقّه في الشّفعة خوفا من إضرار المشتري وله سلطان وقدرة، وأنّه غير تارك لطلبه متى أمكنه نفعه ذلك‏.‏ثمّ إذا ذهبت التّقيّة وقام من فوره بالمطالبة قضي له‏.‏

واختلفوا إذا سكت عن المطالبة بعد زوال ما يتّقيه، والرّاجح أنّه لا يكون له المطالبة، لأنّه متى زال فكأنّ البيع وقع حينئذ‏.‏ ويجب أن يكثر من شهود الاسترعاء، وأقلّهم عند ابن الماجشون أربعة شهود‏.‏ وانظر مصطلح ‏(‏بيع التّلجئة‏)‏‏.‏

التّقيّة في بيان الشّريعة والحكم بها

27 - بيان الأحكام الشّرعيّة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الأصل واجبة على الكفاية، وإذا خاف المسلم ضرراً يلحقه من ذلك جاز له أن ينتقل من الأمر والإنكار باليد إلى الأمر والإنكار باللّسان، فإن خاف من ذلك أيضا جاز له أن ينتقل إلى السّكوت عن المنكر مع الإنكار بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، كما في الحديث الوارد، وذلك نوع من التّقيّة‏.‏ على أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر حيث يشرع التّغيير باليد ثمّ الإنكار باللّسان، مع خوف الضّرر، أعظم درجة من السّكوت، إذ أنّ ذلك نوع من الجهاد‏.‏ وقد قال اللّه تعالى في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه ‏{‏يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ على مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلكَ مِنْ عَزْمِ الأُمورِ‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «أفضل الشّهداء حمزة بن عبد المطّلب ثمّ رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتل»‏.‏

28 - وتعظم درجة الآمر والنّاهي إنْ تَعَيَّنَ عليه، بأن نكل عن البيان من سواه، حتّى عمّ المنكر وظهر، وخاصّة فيما يتعلّق بالتّلبيس في الدّين وطمس، معالمه، فلو أخذ جميع العلماء بالتّقيّة، ولم يقم أحد منهم بواجب البيان لظهرت البدعة وعمّت، وتبدّلت الشّريعة في أعين النّاس‏.‏ وقد أخذ العلماء في عهد المأمون والمعتصم وامتحنوا ليقولوا بخلق القرآن وكان ذلك بمشورة من بعض المعتزلة‏.‏ فلمّا هدّد العلماء وأوذوا قالوا بذلك فتركوا، ولم يثبت منهم في المحنة إلا أربعة أو خمسة مات بعضهم في السّجن‏.‏

ونقل عن أحمد أيّام محنته في خلق القرآن أنّه سئل‏:‏ إن عرضت على السّيف تجيب‏؟‏ قال‏:‏ لا، وقال‏:‏ إذا أجاب العالم تقيّة، والجاهل يجهل، فمتى يتبيّن الحقّ‏؟‏‏.‏

وكان أبو يعقوب البويطيّ صاحب الإمام الشّافعيّ ممّن امتحن فصبر كذلك ولم يجب إلى ما طلبوه منه في فتنة القول بخلق القرآن، لمّا وشي به‏.‏ وقد قال له أمير مصر الّذي كلّف بمحنته‏:‏ قل فيما بيني وبينك‏.‏ قال‏:‏ إنّه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون ما المعنى‏.‏ وقد أمر بحمله من مصر إلى بغداد في الحديد، ومات في السّجن ببغداد في القيد والغلّ رحمه الله‏.‏ وكان لثبات أحمد والبويطيّ ومن معهما أثره في تراجع الخلافة عن ذلك المنهج، وانكسرت بسبب ذلك شوكة المعتزلة‏.‏

29 - وليس للعالم أن ينطق بغير الحقّ وهو يعلم، ولا رخصة له في ذلك على سبيل التّقيّة مطلقا، إن كان السّكوت كافيا لنجاته، لعدم تحقّق شرط جواز التّقيّة حينئذ‏.‏

وفي ذلك من المحذور أيضا الخوف من أن يخفى الحقّ على الجاهلين أو يضعف إيمانهم ويحجموا عن نصر حقّهم اقتداء بمن أجاب تقيّة فيظنّوا جوابه هو الجواب، وهم غافلون عن مراده وأنّه قصد التّقيّة‏.‏

ما ينبغي للآخذ بالتّقيّة أن يراعيه

ينبغي لمن يأخذ بالتّقيّة أن يلاحظ أموراً‏:‏

30 - منها‏:‏ أنّه إن كان له مَخْلَص غير ارتكاب الحرام، فيجب أن يلجأ إليه، ومن ذلك أن يورّي، كمن أكره على شتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكرّم وشرَّف، فينوي محمّداً آخر فإن خطرت بباله التّورية وتركها لم تكن التّقيّة عذرا له، ويعتبر كافراً‏.‏

31 - ومنها‏:‏ أن يلاحظ عدم الانسياق مع الرّخصة حتّى يخرج من حدّ التّقيّة إلى حدّ الانحلال بارتكاب المحرّم بعد انقضاء الضّرورة، وأصل ذلك ما قال اللّه تعالى في شأن المضطرّ ‏{‏فَمَنْ اضْطرَّ غَيرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيمٌ‏}‏ فسّر الباغي بمن أكل الحرام وهو يجد الحلال، وفسّر العادي بمن أكل من الحرام فوق ما تقتضيه الضّرورة‏.‏

وقد نبّه اللّه تعالى في شأن التّقيّة على ذلك حيث قال ‏{‏لا يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكَافِرِينَ أَولِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمنينَ ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ في شَيءٍ إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَه‏}‏ فحذّر تعالى من نفسه لئلا يغترّ المتّقي ويتمادى‏.‏

ثمّ قال في الآية التّالية ‏{‏قُلْ إنْ تُخْفُوا مَا في صُدُورِكُمْ أو تُبْدُوه يَعْلَمُه اللَّهُ‏}‏‏.‏

فنبّه على علمه بما يضمره مرتكب الحرام بموالاة الكفّار أنّه هل يفعله تقيّة أو موافقة‏.‏

قال الرّازيّ‏:‏ إنّه تعالى لمّا نهى عن اتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ظاهراً وباطناً، واستثنى التّقيّة في الظّاهر، أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقا للظّاهر في وقت التّقيّة، وذلك لأنّ من أقدم عند التّقيّة على إظهار الموالاة، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظّاهر سببا لحصول تلك الموالاة في الباطن وهذا الوقوع في الحرام وعدم المبالاة به، الّذي أوّله التّرخّص على سبيل التّقيّة، وآخره الرّضا بالكفر وانشراح الصّدر به، هو الفتنة الّتي أشارت إليها بقيّة الآيات من سورة النّحل الّتي تلت آية الإكراه‏.‏ قال تعالى ‏{‏ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ وفي سورة العنكبوت ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذا أُوذِيَ في اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ‏}‏ قال الطّبريّ ‏"‏ معناه إذا آذاه المشركون في إقراره باللّه جعل فتنة النّاس إيّاه كعذاب اللّه في الآخرة فارتدّ عن إيمانه باللّه راجعا إلى الكفر به ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ وذكر أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهل الإيمان كانوا بمكّة، فخرجوا منها مهاجرين فأدركوا وأخذوا فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوه منهم ‏"‏‏.‏

وذكر غير الطّبريّ منهم عيّاش بن أبي ربيعة أخا أبي جهل لأمّه، وأبا جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن المغيرة وغيرهم ثمّ إنّهم هاجروا فنزل قوله تعالى ‏{‏ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

32 - ومنها أن يلاحظ النّيّة، فينوي أنّه إنّما يفعل الحرام للضّرورة، وهو يعلم أنّه حرام إلا أنّه يأخذ برخصة اللّه، فإن فعله وهو يرى أنّه سهل ولا بأس به فإنّه يقع في الإثم‏.‏ وهذا ما يشير إليه آخر الآية وهو قوله تعالى ‏{‏وَلَكنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيهمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ وفي الحديث «دخل رجل الجنّة في ذباب ودخل النّار رجل في ذباب، قالوا‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتّى يقرّب له شيئاً، فقالوا لأحدهما‏:‏ قرّب قال‏:‏ ليس عندي شيء فقالوا له قرّب ولو ذباباً، فقرّب ذبابا فخلّوا سبيله قال‏:‏ فدخل النّار، وقالوا للآخر قرّب ولو ذباباً قال ما كنت لأقرّب لأحد شيئا دون اللّه عزّ وجلّ قال‏:‏ فضربوا عنقه قال فدخل الجنّة»‏.‏

قال في تيسير العزيز الحميد‏:‏ وفيه‏:‏ أنّه دخل النّار بسبب لم يقصده بل فعله تخلّصا من شرّهم‏.‏ وفيه‏:‏ معرفة قدر الشّرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظّاهر‏.‏

تكافؤ

التّعريف

1 - التّكافؤ لغة‏:‏ الاستواء، وكلّ شيء ساوى شيئا حتّى يكون مثله فهو مكافئ له، والمكافأة بين النّاس من هذا، والمسلمون تتكافأ دماؤهم أي تتساوى في الدّية والقصاص، قال أبو عبيد‏:‏ فليس لشريف على وضيع فضل في ذلك‏.‏

والكفء‏:‏ النّظير والمساوي، ومنه‏:‏ الكفاءة في النّكاح أي أن يكون الزّوج مساويا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك‏.‏

والكَفَاء مصدر كافأه أي قابله وصار نظيرا له، وقولهم‏:‏ الحمد للّه حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، أي يلاقي نعمه ويساوي مزيد نعمه، وهو أجلّ التّحاميد‏.‏

وسيأتي التّعريف الاصطلاحيّ مع الإطلاقات المختلفة‏:‏

حكم الكفاءة

2 - بحث الفقهاء التّكافؤ - أو الكفاءة حسب عبارتهم في النّكاح - في مواطن منها‏:‏ النّكاح، والقصاص، والمبارزة في القتال، والمسابقة على خيل ونحوها، وفيما يلي حكم التّكافؤ في كلّ منها‏:‏

الكفاءة في النّكاح

3 - هي لغة‏:‏ التّساوي والتّعادل‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ اختلفت عبارة الفقهاء في تعريفها الاصطلاحيّ، وعرّفها القهستانيّ من الحنفيّة بأنّها مساواة الرّجل للمرأة في الأمور المعتبرة في النّكاح‏.‏

وعرّفها الشّافعيّة‏:‏ بأنّها أمر يوجب عدمه عاراً‏.‏

وجمهور الفقهاء يعتبرون الكفاءة في النّكاح، ويستدلّون بالكتاب والسّنّة والآثار والمعقول، لكنّ الكرخيّ والثّوريّ والحسن البصريّ ذهبوا إلى عدم اعتبار الكفاءة الّتي اعتبرها الجمهور في النّكاح‏.‏

والوقت الّذي تعتبر عنده الكفاءة، هو ابتداء عقد النّكاح ولا يضرّ زوالها بعده‏.‏

وتعتبر الكفاءة - عند جمهور الفقهاء - في جانب الرّجال للنّساء ولا تعتبر في جانب النّساء للرّجال‏.‏ والحقّ في الكفاءة للمرأة أو للأولياء أو لهما‏.‏ على تفصيل في ذلك‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في خصال الكفاءة الّتي ينبغي أن يكافئ الزّوج فيها الزّوجة، وذهب أكثرهم - كما قال الخطّابيّ - إلى أنّ الكفاءة معتبرة بأربعة أشياء‏:‏ الدّين، والحرّيّة، والنّسب، والصّناعة‏.‏ واعتبر جمهور الفقهاء الكفاءة للزوم النّكاح لا لصحّته، وفي رواية الحسن المختارة للفتوى عند الحنفيّة، ورواية عن أحمد، أنّ الكفاءة شرط لصحّة النّكاح، وسبقت الإشارة إلى عدم اعتبار الكفاءة عند الكرخيّ، والثّوريّ والحسن البصريّ‏.‏

وفي هذه المسائل، وفي النّكاح الّذي تعتبر فيه الكفاءة، وفي أثر عدم اعتبارها تفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏كفاءة‏)‏ وفي مصطلح ‏(‏نكاح‏)‏‏.‏

هذا عن حكم التّكافؤ ‏"‏ أثره ‏"‏ أمّا اختيار الأكفاء في النّكاح فهو مسنون لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه»‏.‏

التّكافؤ في الدّماء

4 - من الشّروط الّتي ذكرها الفقهاء للقصاص‏:‏ أن يتكافأ المجنيّ عليه مع الجاني، أي أن يكون بينهما تكافؤ في الدّم‏.‏

وعرّف الشّافعيّة التّكافؤ في القصاص بأنّه‏:‏ مساواة القاتل للقتيل الجاني للمجنيّ عليه‏.‏ بأن لا يفضله بإسلام أو أمان أو حرّيّة أو سيادة، أو أصليّة - أي لا يكون أصلا للمقتول وإن علا ذكرا كان أو أنثى ولو كافراً -‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ القصاص يعتمد المساواة في العصمة، فإذا وجدت فإنّ القصاص يجري بين القاتل والقتيل المسلمين دون نظر إلى تفاوت في نسب أو مال أو صفات خاصّة‏.‏

لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المسلمون تتكافأ دماؤهم‏.‏‏.‏»‏.‏

ويعتبر التّكافؤ بين القاتل والقتيل حال الجناية، ولا عبرة بالحال قبلها أو بعدها‏.‏ ويعتبر التّكافؤ بين الجاني والمجنيّ عليه في الجرح والنّفس، فإن ساوى الجاني المجنيّ عليه اقتصّ فيهما‏.‏ وصرّح الحنابلة بأنّ أثر اعتبار التّكافؤ في القصاص‏:‏ أنّه لا يقتل المسلم بمن لا يساويه في العصمة، ويقتل المسلم بالمسلم وإن تفاوتا في العلم والشّرف وغيرهما‏.‏ وفي هذه المسائل وغيرها ممّا يتعلّق بالتّكافؤ في الدّماء تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏

‏(‏كفاءة‏)‏ وفي مصطلح‏:‏ ‏(‏قصاص‏)‏‏.‏

التّكافؤ في المبارزة

5 - المبارزة لغة‏:‏ الخروج إلى الخصم لقتاله ومصارعته، وكانت تتمّ بخروج أحد المقاتلين أمام أصحابه ودعوة أحد الخصوم للقتال، فيبرز له من دعي إن كان قد سمّى أحداً أو يبرز إليه أحد أكفائه إن لم يكن سمّى أحداً، ويدور بينهما قتال حتّى يصرع أحدهما صاحبه‏.‏ والتّكافؤ للمبارزة‏:‏ أن يعلم الشّخص الّذي يخرج لها من نفسه القوّة والشّجاعة، وأنّه لن يعجز عن مقاومة عدوّه‏.‏

وقد بيّن الفقهاء في باب ‏"‏ الجهاد ‏"‏ حكم المبارزة، وأنّها تكون جائزة - خلافا للحسن - بإطلاق أو بإذن الإمام، وتكون مستحبّة لمن يعلم من نفسه القوّة والشّجاعة، لأنّ في خروجه للمبارزة نصرا للمسلمين ودرءا عنهم وإظهارا لقوّتهم، وتكون مكروهة للضّعيف الّذي لا يثق من قوّته وشجاعته، لما في ذلك من كسر قلوب المسلمين وإضعاف عزمهم لأنّه يقتل غالباً‏.‏ فالتّكافؤ هو مناط الحكم بالجواز أو الاستحباب أو الكراهة في المبارزة، وقد بيّن الماورديّ ذلك في قوله‏:‏ وإذا جازت المبارزة بما استشهدنا‏.‏‏.‏ كان لتمكين المبارزة شرطان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون ذا نجدة وشجاعة يعلم من نفسه أنّه لن يعجز عن مقاومة عدوّه، فإن كان بخلافه منع‏.‏

والثّاني‏:‏ أن لا يكون زعيما للجيش يؤثّر فقده فيهم‏.‏

وقد «أقرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّكافؤ في المبارزة يوم بدر حين نادى عتبة بن ربيعة، يا محمّد أخرج إلينا من قومنا أكفاءنا‏.‏‏.‏ فقد خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، حتّى إذا فصل من الصّفّ دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم‏:‏ عوف ومعوّذ ابنا الحارث ورجل آخر يقال هو عبد اللّه بن رواحة، فقالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ رهط من الأنصار، قالوا‏:‏ ما لنا بكم من حاجة، ثمّ نادى مناديهم‏:‏ يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا عليّ، فلمّا قاموا ودنوا منهم قالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ قال عبيدة‏:‏ عبيدة، وقال حمزة‏:‏ حمزة، وقال عليّ‏:‏ عليّ قالوا‏:‏ نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة وكان أسنّ القوم عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأمّا عليّ فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذفّفا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه»‏.‏

التّكافؤ بين الخيل في السّبق

6 - السّبق - بالسّكون - في اللّغة‏:‏ المسابقة، والسّبق - بفتح الباء - ما يجعل من المال رهنا على المسابقة ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

وقد شرع السّبق في الخيل وفي الإبل - ولو بجعل - لما فيه من إعداد للجهاد في سبيل اللّه تعالى‏.‏ وقد اشترط الفقهاء للسّبق وحلّ الجعل شروطاً منها‏:‏ التّكافؤ بين الدّابّتين المتسابقتين بحيث يمكن سبق كلّ منهما، والتّكافؤ بينهما وبين المحلّل الّذي يدخل بينهما في حالة شرط إخراج الجعل من المتسابقين‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ ولا بأس بالمسابقة في الرّمي والفرس والإبل‏.‏‏.‏ وحلّ الجعل وطاب إن شرط المال في المسابقة من جانب واحد، وحرم لو شرط فيها من الجانبين، لأنّه يصير قماراً، إلا إذا أدخلا ثالثا محلّلا بينهما بفرس كفء لفرسيهما يتوهّم أن يسبقهما، وإلا لم يجز أي إن كان يسبق أو يسبق لا محالة فلا يجوز‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار»‏.‏

وذهب المالكيّة إلى جواز المسابقة بجعل في الخيل، وفي الإبل، وبين الخيل والإبل، وفي السّهم إذا كان الجعل ممّا يصحّ بيعه، وعيّن المبدأ والغاية والمركب‏.‏ وثمّ قالوا في شرح المركب‏:‏ ولا بدّ أن تكون الخيل أو الإبل متقاربة في الجري، وأن يجهل كلّ واحد منهما سبق فرسه وفرس صاحبه، فإن قطع أحدهما أنّ أحد الفرسين أكثر جريا من الآخر لم تجز‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ وشرط المسابقة علم الموقف والغاية وتساويهما فيهما، وتعيين الفرسين ويتعيّنان، وإمكان سبق كلّ واحد‏.‏

فإن كان أحدهما ضعيفا يقطع بتخلّفه أو فارها يقطع بتقدّمه لم يجز‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يشترط أن يكون فرس المحلّل مكافئا لفرسيهما أو بعيره مكافئا لبعيريهما، فإن لم يكن مكافئا مثل أن يكون فرساهما جوادين وفرسه بطيئا فهو قمار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار»، ولأنّه مأمون سبقه فوجوده كعدمه، وإن كان مكافئا لهما جاز‏.‏

ويشترط في الرّهان أن تكون الدّابّتان من جنس واحد، فإن كانتا من جنسين كالفرس والبعير لم يجز، لأنّ البعير لا يكاد يسبق الفرس فلا يحصل الغرض من هذه المسابقة‏.‏